التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الوقف.. استدامة منذ النشأة


 




الوقف.. "استدامة" منذ النشأة

 

أصبح مفهوم "الاستدامة" حاضرًا بقوة في الخطاب الخيري والتنموي في العقود الأخيرة؛ بسبب مجموعة من التحديات البيئية والاجتماعية والاقتصادية التي تهدد مستقبل الأجيال القادمة.

ومع كثرة الاهتمام بأهداف التنمية المستدامة؛ يتجدد النقاش حول موضع "الوقف" من هذا المفهوم: هل هو أحد أدوات الاستدامة؟ أم يتجاوزها؟

والحقيقة التي يخبرنا بها التاريخ أن الوقف ليس مجرد وسيلة لتحقيق الاستدامة، بل هو نموذج حضاري متفوق على المفهوم الغربي الحديث للاستدامة؛ لأنه يمتلك قاعدة تاريخية وتنظيمية وفكرية صلبة، تجعله الفاعل في المجتمع.

وعلى الرغم من عدم وجود مصطلح "الاستدامة" في المدونات الفقهية، إلا أن حقيقة الفعل حاضرة في الوقف منذ بزوغه في الإسلام، وذلك في أركانه، ومقاصده، وتعاملاته.

ومن هنا تبرز أوجه تميّز الوقف من حيث كونه "استدامة بطبيعة فكرته ونشأته ومقاصده" وذلك من خلال عدة أمور:

أولاً: الاستدامة الذاتية:  فالوقف لا يعتمد على تمويل خارجي، بل يعتمد على أصل موقوف وثابت؛ لضمان استدامة العطاء.

ثانياً: الدافعية القيمية : حيث إن الوقف مرتبط بالنية والأجر الأخروي، ما يضيف بُعدًا أخلاقياً وروحياً قوياً يَضْعُف في مشاريع الاستدامة المؤسسية.

ثالثاً: المرونة الخيرية: فالوقف يمكن تخصيصه لعدة مجالات خيرية واجتماعية وتنموية منتظمة في عقد وقفي واحد.

رابعاً: التماسك الاجتماعية: فالوقف مجتمعي بطبعه، سواء كان وقفاً ذرياً أو مشتركاً أو خيرياً لمصارف تكافلية متنوعة.

خامساً: الأصالة التاريخية:  فالوقف طبّق "الاستدامة" منذ بداية نشأته قبل أربعة عشر قرناً في تاريخ الحضارة الإسلامية، بينما لم يظهر مفهوم "الاستدامة الحديث" إلا بعد 1987م مع تقرير برونتلاند!
ولذا فإن من الواجب أن نستلهم تجربة "الاستدامة" من الوقف، ونعيد قراءته كحلٍ حضاري أصيل وفعّال، يتجاوز في بنيته وغاياته كل ما تحاول مفاهيم الاستدامة تحقيقه؛ إذ هو نموذج نابع من مقاصد الشريعة وقيم المجتمع، وقادر على دعم مستقبل أكثر عدلاً واستدامةً واستقلالًا، والتاريخ شاهد!

 

د. أسامة بن علي الغانم

متخصص في تطوير الأعمال في القطاع غير الربحي والمستشار في الأوقاف والوصايا

0504496494

dr.oalghanem1@gmail.com

 

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التحفيز على تطبيق الحوكمة في الأوقاف

   التحفيز على تطبيق الحوكمة في الأوقاف   تبذل الهيئة العامة للأوقاف -مشكورة- جهوداً في تنظيم كل ما من شأنه الارتقاء بقطاع الأوقاف، ومن آخر مشاريعها المتميّزة: مشروع وثيقة مبادئ حوكمة الأوقاف ، والذي يسعى لتعزيز أفضل ممارسات الحوكمة في المجال الوقفي، وتطوير قواعدها وسياساتها؛ بما يسهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية الوقفية، والاستدامة المؤسسية، والآثار الاجتماعية، ويقوّي التكامل بين الجهات الرقابية والتشغيلية؛ لتحقيق الامتثال الفعّال. ودَعَت الهيئة جميع المعنيين بالقطاع الوقفي مشاركتها الرأي في المشروع من خلال رابط المشاركة في منصة استطلاع التابعة للمركز الوطني للتنافسية عبر الرابط التالي: https://t.co/njVkSM4y88 . وقد أرسل إليّ الأخ العزيز مدير الإدارة العامة بوقف الشريف غالب الأستاذ الشريف: محمود بن هاني آل غالب -وفقه الله- بإحسان ظنّ منه في أخيه -جزاه الله خيراً- تعليقه ورأيه المبارك في المشروع -وهو منشور في التعليقات على المشروع في منصة استطلاع-، ورأيتُ ضمن اقتراحاته وضع نظام تصنيف ثلاثي لتحفيز الأوقاف على الالتزام بالحوكمة، ويكون إطاراً تدريجياً لتطبيق مبادئ الح...

من وثيقةِ عمر-رضي الله عنه- إلى وثائقِنا اليوم!

من وثيقةِ عمر-رضي الله عنه- إلى وثائقِنا اليوم يقف الفاروق عمر -رضي الله عنه- على أرض خضراء في خيبر تتلألأ بالنخيل، يتأمل ملكًا نفيسًا وهبه الله له، وقلبه يتوق أن يجعله صدقة جارية لا تنقطع، فيُولّي شطر قلبه إلى رسول الله ﷺ يستشيره، فيجيبه ﷺ بكلمات خالدة: "إن شئت حبّست أصلها، وتصدّقت بها". فكتب عمر -رضي الله عنه- أول وثيقة وقفية مكتوبة في الإسلام، وحدد فيها المقاصد والأغراض، وضبط الشروط والمصارف، ووضع صلاحيات التصرّف؛ ليضع هذا الصحابي الجليل المُلهم حجر الأساس لأعظم نظام استثماري اجتماعي مستدام تعرفه البشرية، وهو: "الوقف". وحين النظر في هذه الوثيقة الوقفية المباركة نجد أنها -في بادئ النظر- ورقة مكتوبة، لكنها -حين التأمل- نواة "حوكمة الأوقاف" الذي ظلّ حاضرًا حتى يومنا هذا. وعندما نقرأ هذه الوثيقة، تتجلى لنا مبادئ ثمانية لا غنى عنها لكل واقفٍ أو ناظرٍ أو مستشار وقفي، وهي: ·       وضوح المقصد: فبدون مقصد محدد تصبح المصارف فضفاضة، ويفتح باب الاجتهاد الخاطئ؛ فيتعثر الوقف، ويضيع الأثر. ·       مرجعية مُعتمدة: فالوثيقة أصل فقهي، ومرجع نظام...

معالم وقفية: وصيةٌ أم وقف!

  وصيةٌ أم وقف! أوقفتُ عملي، واستدرتُ نحو قلمي لأكتب هذه الأسطر؛ لأن الضرورة الفكرية ألجأتني لتدوين الكلمات، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. العملُ الذي أوقفته كان أيضاً سبباً في جذوة هذا المقال؛ إذ كنت أدرس وثيقة وصية وردتني فيها نزاع وشقاق، وهي الثالثة التي تصلني خلال هذا الأسبوع من الجلسات الاستشارية الوقفية.  والأسئلةُ المبدوء بها: لماذا يلجأ المحسنون إلى الوصية دون الوقف؟ أليست لهم رغبة في البحث عن الأجر الأعظم، والثواب الأدوم؟ ألم يدفعهم الحثّ النبوي على الوصية بكتابتها وإثباتها؟ أوَلَهُم رغبة في نفع ذريتهم، وصلة رحمهم، وامتداد أجرهم بعد موتهم في ميادين البر والإحسان المتنوعة؟ والجواب على كل تلك الأسئلة وغيرها: بلى، ولو تكلم أموات المُوْصِين لصاحوا بها! لا شك أن الوصية لها فضل عظيم لا يخفى، ولكن الوقف أفضل منها، وأجدر بتحقيق جميع ما في نفس الموصي وأكثر، فالوقف فيه اتباع لسنة النبي ﷺ وأصحابه -رضي الله عنهم-، فمن نظر في سيرهم وجد أن الوقف حاضراً في حياتهم، وظاهراً في مسيرة أعمارهم مقارنة بالوصية. كما أن الوقف في حياة المرء فيه مسارعة لرضا الله تعالى، ومسابقة...