التخطي إلى المحتوى الرئيسي

رحلة بين روحين !

 


رحلة بين رُوحين

سآخذكم في رحلة عظيمة جمعت بين رُوحين، هي رحلة بدأت منذ نزل قول الله تعالى: {ولله على الناس حجُّ البيت من استطاع إليه سبيلا} وذلك أواخر السنة التاسعة من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي فيها وفدت قبائل العرب على المدينة في صورة حضارية، وسيرة نبوية عليها نور الوحي الإلهي، وهو العام الذي سمي بـ(عام الوفود)، وكأنها إشارة إلى الوفود العظمى وهم "الحجاج، وفد الله".

ومن روح هذا النداء القرآني الذي يكمل نداء أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- انطلق الوقف الإسلامي عبر التاريخ ميسّراً لوفود الله تعالى حجّهم؛ في رحلة تجمع بين روحين، روح تلبية نداء الله تعالى لحج بيته العظيم، وروح العطاء الوقفي وقيمه الإنسانية النبيلة، فعبّدت الطرق، وبُنيت النُزل ومحطات الزاد والراحة على امتداد مسارات الحج، ووُقّفت المزارع والآبار؛ لتوفير الطعام والمؤونة والماء لوفد الله تعالى، وما أوقفته "زُبيدة" زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد من مشاريع وقفية على طريق مكة والمعروف بـ"عين زبيدة" إلا شاهدٌ  من شواهد التاريخ على سمو هذا المقصد الإسلامي المعطاء.

  وتطلعك رحلة "وفد الله" عبر تاريخ الحج على خدمة الحرمين الشريفين وتيسير أداء مناسك حج بيت الله الحرام، في تناغم عجيب بين روح العبادة وقيم البذل الوقفي؛ لتكون هذه الأيام بحق أفضل أيام العام في جميع صورها العبادية والإنسانية؛ ولتستمر هذه الرحلة حتى وقتنا الزاهر في المملكة العربية السعودية -حرسها الله وأدام عزّها-، والتي تضع على أعلى أولوياتها خدمة الحرمين الشريفين، وحجاج بيت الله الحرام، وزوّارهما وعمّارهما، والذي يراه العمي قبل البصير، والشمس لا تغطى بغربال!

ومن هذه الجهود المبذولة المشكورة -وهي كثيرة- ما يقوم به برنامج خدمة ضيوف الرحمن -وهو أحد برامج تحقيق رؤية المملكة 2030-، ووزارة الحج والعمرة، والهيئة العامة للعناية بشؤون الحرمين، والهيئة العامة للأوقاف، والمركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، والجمعيات الخيرية المتخصصة في خدمة الحجاج والمعتمرين، والمشاريع التي تنفذها الجمعيات الخيرية العامة، وبرامج المشاركة المجتمعية والمسؤولية الاجتماعية وغيرها من القطاعات الحكومية والأمنية، مما يثير الإعجاب والفخر في خدمة رحلة "وفد الله" عبر خدمات متكاملة تعينهم على تأدية شعائرهم بيسر وطمأنينة.

إن هذه الرحلة العظيمة "رحلة وفد الله" التي هي بين روحين -روح العبادة وروح البذل الوقفي-، حيث يتلاقى الإيمان بالإحسان، ويترجم التكافل الإسلامي الاجتماعي إلى مشاريع خالدة؛ هي في الحقيقة ركيزة من ركائز الحضارة الإسلامية، وأداة تنموية تدعم المجتمع وتطوّر مسارات الخير؛ لذا يجب علينا الاستمرار في التذكير بهذه الجهود، والوعي بقيمة الوقف في رحلة الحج وخدمة ضيوف الرحمن، بما يواكب مستهدفات المملكة في رؤية 2030؛ لتظل بلادنا المجيدة -وهي كذلك بحمد الله-شاهدة على حضارة أينعت، وأرواحٍ أنفقت، وأوقافٍ أثّّرت وأثمرت، في استمرار نداء خليل الله إبراهيم، وشعائر سيد المرسلين العظيم -عليهما الصلاة والسلام-.

وكذا "النبيُّ" إذا تنادى ذكره

سال النَّضار به وقام الماء

وهذا ختم المعلم...

د. أسامة بن علي الغانم

متخصص في تطوير الأعمال في القطاع غير الربحي والمستشار في الأوقاف والوصايا

0504496464

 dr.oalghanem1@gmail.com


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التحفيز على تطبيق الحوكمة في الأوقاف

   التحفيز على تطبيق الحوكمة في الأوقاف   تبذل الهيئة العامة للأوقاف -مشكورة- جهوداً في تنظيم كل ما من شأنه الارتقاء بقطاع الأوقاف، ومن آخر مشاريعها المتميّزة: مشروع وثيقة مبادئ حوكمة الأوقاف ، والذي يسعى لتعزيز أفضل ممارسات الحوكمة في المجال الوقفي، وتطوير قواعدها وسياساتها؛ بما يسهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية الوقفية، والاستدامة المؤسسية، والآثار الاجتماعية، ويقوّي التكامل بين الجهات الرقابية والتشغيلية؛ لتحقيق الامتثال الفعّال. ودَعَت الهيئة جميع المعنيين بالقطاع الوقفي مشاركتها الرأي في المشروع من خلال رابط المشاركة في منصة استطلاع التابعة للمركز الوطني للتنافسية عبر الرابط التالي: https://t.co/njVkSM4y88 . وقد أرسل إليّ الأخ العزيز مدير الإدارة العامة بوقف الشريف غالب الأستاذ الشريف: محمود بن هاني آل غالب -وفقه الله- بإحسان ظنّ منه في أخيه -جزاه الله خيراً- تعليقه ورأيه المبارك في المشروع -وهو منشور في التعليقات على المشروع في منصة استطلاع-، ورأيتُ ضمن اقتراحاته وضع نظام تصنيف ثلاثي لتحفيز الأوقاف على الالتزام بالحوكمة، ويكون إطاراً تدريجياً لتطبيق مبادئ الح...

من وثيقةِ عمر-رضي الله عنه- إلى وثائقِنا اليوم!

من وثيقةِ عمر-رضي الله عنه- إلى وثائقِنا اليوم يقف الفاروق عمر -رضي الله عنه- على أرض خضراء في خيبر تتلألأ بالنخيل، يتأمل ملكًا نفيسًا وهبه الله له، وقلبه يتوق أن يجعله صدقة جارية لا تنقطع، فيُولّي شطر قلبه إلى رسول الله ﷺ يستشيره، فيجيبه ﷺ بكلمات خالدة: "إن شئت حبّست أصلها، وتصدّقت بها". فكتب عمر -رضي الله عنه- أول وثيقة وقفية مكتوبة في الإسلام، وحدد فيها المقاصد والأغراض، وضبط الشروط والمصارف، ووضع صلاحيات التصرّف؛ ليضع هذا الصحابي الجليل المُلهم حجر الأساس لأعظم نظام استثماري اجتماعي مستدام تعرفه البشرية، وهو: "الوقف". وحين النظر في هذه الوثيقة الوقفية المباركة نجد أنها -في بادئ النظر- ورقة مكتوبة، لكنها -حين التأمل- نواة "حوكمة الأوقاف" الذي ظلّ حاضرًا حتى يومنا هذا. وعندما نقرأ هذه الوثيقة، تتجلى لنا مبادئ ثمانية لا غنى عنها لكل واقفٍ أو ناظرٍ أو مستشار وقفي، وهي: ·       وضوح المقصد: فبدون مقصد محدد تصبح المصارف فضفاضة، ويفتح باب الاجتهاد الخاطئ؛ فيتعثر الوقف، ويضيع الأثر. ·       مرجعية مُعتمدة: فالوثيقة أصل فقهي، ومرجع نظام...

معالم وقفية: وصيةٌ أم وقف!

  وصيةٌ أم وقف! أوقفتُ عملي، واستدرتُ نحو قلمي لأكتب هذه الأسطر؛ لأن الضرورة الفكرية ألجأتني لتدوين الكلمات، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. العملُ الذي أوقفته كان أيضاً سبباً في جذوة هذا المقال؛ إذ كنت أدرس وثيقة وصية وردتني فيها نزاع وشقاق، وهي الثالثة التي تصلني خلال هذا الأسبوع من الجلسات الاستشارية الوقفية.  والأسئلةُ المبدوء بها: لماذا يلجأ المحسنون إلى الوصية دون الوقف؟ أليست لهم رغبة في البحث عن الأجر الأعظم، والثواب الأدوم؟ ألم يدفعهم الحثّ النبوي على الوصية بكتابتها وإثباتها؟ أوَلَهُم رغبة في نفع ذريتهم، وصلة رحمهم، وامتداد أجرهم بعد موتهم في ميادين البر والإحسان المتنوعة؟ والجواب على كل تلك الأسئلة وغيرها: بلى، ولو تكلم أموات المُوْصِين لصاحوا بها! لا شك أن الوصية لها فضل عظيم لا يخفى، ولكن الوقف أفضل منها، وأجدر بتحقيق جميع ما في نفس الموصي وأكثر، فالوقف فيه اتباع لسنة النبي ﷺ وأصحابه -رضي الله عنهم-، فمن نظر في سيرهم وجد أن الوقف حاضراً في حياتهم، وظاهراً في مسيرة أعمارهم مقارنة بالوصية. كما أن الوقف في حياة المرء فيه مسارعة لرضا الله تعالى، ومسابقة...