التخطي إلى المحتوى الرئيسي

معالم وقفية: معراج الكمال الوقفي

 






 معراج الكمال الوقفي!

 

تكاثرت آيات الصدقة والإنفاق في كتاب الله تعالى حتى زادت على مئة آية، وورد في ثمان مواضع منها الحديث عن ترتيب البذل والإنفاق العام، جميعها تقدّم وصف القربى والرحم -ولو كان غنياً- على المسكين والفقير!

وثمة أصول ثلاثة مهمّة يجب استحضارها في كل عمل يقوم به المرء راجياً ثواب الله تعالى؛ لتقوم مصالحه في الدنيا والآخرة، وهي: النية الصالحة، والقصد الصحيح، وإصابة مراد الله تعالى وقصده من أصل مشروعيته، وهذه الأصول مشتملة على الوقف، فإنه متضمن لمصالح أخروية متعلقة بالواقف، وأخرى دنيوية مرتبطة بالموقوف عليه، ومتى ما اجتمعت هذه الأصول الثلاثة في وقف كان إلى الكمال أقرب؛ ولذا كان لفظ "الصدقة" حاضراً في أوقاف الصحابة -رضي الله عنهم- للتعبير عن هذه الأصول الثلاثة، عوضاً عن الألفاظ التي جاءت بعدهم "كالتحبيس" و "الوقف"، ولا غرو في ذلك إذا ما عرفنا أنهم صادرون عن قول النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور: "صدقة جارية".

ومن سلّم الكمال في الوقف أن تقوم فيه أسباب التفضيل الشرعية، وهي: الحاجة، والمصلحة العظيمة، والقرابة، فمتى ما اجتمعت هذه الثلاثة كان الوقف أعظم الصدقات، وأقربها للكمال.

ومن هنا جاءت السنة النبوية لتضع للمنفق نماذج لمعراج الكمال الوقفي، فمن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: " "ابدأ بنفسِك فتصدق عليها، فإن فضل شيءٌ فلأهلِك، فإن فضل عن أهلِك شيءٌ لذوي قرابِتك، فإن فضل شيءٌ عن ذي قرابِتك فهكذا وهكذا"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "الصَّدقةُ على المسْكينِ صدقةٌ، وعلى ذي القرابةِ اثنتان: صدقةٌ وصلةٌ"، وانعقد إجماع الأمة على تفضيل الصدقة على القريب؛ لأن وصف القربة مؤثرٌ في البذل والعطاء، ومحقق لقوة أسباب التفضيل الشرعية؛ لذلك استفاضت أوقاف الصحابة -رضي الله عنهم- على قرابتهم، كما جاءت بذلك الآثار، وما رجّح فقهاء الشافعية والحنابلة صرف ريع الوقف إلى أقارب الواقف إلا لأنهم أولى الناس بصدقته.

وبعد أيها الكريم: هذا شيء من معراج الكمال الوقفي، وهو: الوقف العائلي، الذي يساهم في بناء مجتمع تكافلي متراحم متواصل، قوي بأفراده وجماعاته، داعم لروابط الصلة والمحبة والألفة بين أهله، عطوف على فقيره ومحتاجه، مُغْنٍ للذرية وساد لحاجة الأقربين، رافع للظلم عن مظلوميه، مدخل للسرور على مهموميه، كافل لأيتامه وقائم على مساكينه وأرامله، واقف مع مريضه ومبتلاه، محافظ على استقرار أسره وعوائله، رافعٍ همم أبنائه، وبانٍ مستقبل أجياله، ضامن لبقاء المال واستدامته مدة طويلة، ناهيك عن كونه خير الصدقات، ومستمر الثواب والحسنات، ومن أحب الأعمال إلى الرب تبارك وتعالى؛ مما يجعله محققاً للكمال الوقفي في الدنيا والآخرة.

فكن أحد روّاد هذه الغاية النفيسة بأي وسيلة تناسبك، نشراً لفكرته، أو حثاً على تطبيقه، أو مشاركةً في تأسيسه، أو غير ذلك مما تجده مدّخراً لك عند مولاك، فـ"أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض"، واغتنم فرص الزمان اليوم، فقد تهيأت أسباب التيسير للأوقاف العائلية بما لم تتهيأ قبل، وتنوعت طرق تأسيسها، وضُبطت مآخذها، وطابت مواردها؛ لتناسب فخامة المقصد ونفاسته

فنفاسةُ الأشياء في غاياتها

فاحمَدْ رماءك إن أصبتَ نفيسا

وما بعد المَعْلَم إلا المسير!


د. أسامة بن علي الغانم

متخصص في تطوير الأعمال في القطاع غير الربحي والمستشار في الأوقاف والوصايا

0504496494

 dr.oalghanem1@gmail.com

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التحفيز على تطبيق الحوكمة في الأوقاف

   التحفيز على تطبيق الحوكمة في الأوقاف   تبذل الهيئة العامة للأوقاف -مشكورة- جهوداً في تنظيم كل ما من شأنه الارتقاء بقطاع الأوقاف، ومن آخر مشاريعها المتميّزة: مشروع وثيقة مبادئ حوكمة الأوقاف ، والذي يسعى لتعزيز أفضل ممارسات الحوكمة في المجال الوقفي، وتطوير قواعدها وسياساتها؛ بما يسهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية الوقفية، والاستدامة المؤسسية، والآثار الاجتماعية، ويقوّي التكامل بين الجهات الرقابية والتشغيلية؛ لتحقيق الامتثال الفعّال. ودَعَت الهيئة جميع المعنيين بالقطاع الوقفي مشاركتها الرأي في المشروع من خلال رابط المشاركة في منصة استطلاع التابعة للمركز الوطني للتنافسية عبر الرابط التالي: https://t.co/njVkSM4y88 . وقد أرسل إليّ الأخ العزيز مدير الإدارة العامة بوقف الشريف غالب الأستاذ الشريف: محمود بن هاني آل غالب -وفقه الله- بإحسان ظنّ منه في أخيه -جزاه الله خيراً- تعليقه ورأيه المبارك في المشروع -وهو منشور في التعليقات على المشروع في منصة استطلاع-، ورأيتُ ضمن اقتراحاته وضع نظام تصنيف ثلاثي لتحفيز الأوقاف على الالتزام بالحوكمة، ويكون إطاراً تدريجياً لتطبيق مبادئ الح...

من وثيقةِ عمر-رضي الله عنه- إلى وثائقِنا اليوم!

من وثيقةِ عمر-رضي الله عنه- إلى وثائقِنا اليوم يقف الفاروق عمر -رضي الله عنه- على أرض خضراء في خيبر تتلألأ بالنخيل، يتأمل ملكًا نفيسًا وهبه الله له، وقلبه يتوق أن يجعله صدقة جارية لا تنقطع، فيُولّي شطر قلبه إلى رسول الله ﷺ يستشيره، فيجيبه ﷺ بكلمات خالدة: "إن شئت حبّست أصلها، وتصدّقت بها". فكتب عمر -رضي الله عنه- أول وثيقة وقفية مكتوبة في الإسلام، وحدد فيها المقاصد والأغراض، وضبط الشروط والمصارف، ووضع صلاحيات التصرّف؛ ليضع هذا الصحابي الجليل المُلهم حجر الأساس لأعظم نظام استثماري اجتماعي مستدام تعرفه البشرية، وهو: "الوقف". وحين النظر في هذه الوثيقة الوقفية المباركة نجد أنها -في بادئ النظر- ورقة مكتوبة، لكنها -حين التأمل- نواة "حوكمة الأوقاف" الذي ظلّ حاضرًا حتى يومنا هذا. وعندما نقرأ هذه الوثيقة، تتجلى لنا مبادئ ثمانية لا غنى عنها لكل واقفٍ أو ناظرٍ أو مستشار وقفي، وهي: ·       وضوح المقصد: فبدون مقصد محدد تصبح المصارف فضفاضة، ويفتح باب الاجتهاد الخاطئ؛ فيتعثر الوقف، ويضيع الأثر. ·       مرجعية مُعتمدة: فالوثيقة أصل فقهي، ومرجع نظام...

معالم وقفية: وصيةٌ أم وقف!

  وصيةٌ أم وقف! أوقفتُ عملي، واستدرتُ نحو قلمي لأكتب هذه الأسطر؛ لأن الضرورة الفكرية ألجأتني لتدوين الكلمات، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. العملُ الذي أوقفته كان أيضاً سبباً في جذوة هذا المقال؛ إذ كنت أدرس وثيقة وصية وردتني فيها نزاع وشقاق، وهي الثالثة التي تصلني خلال هذا الأسبوع من الجلسات الاستشارية الوقفية.  والأسئلةُ المبدوء بها: لماذا يلجأ المحسنون إلى الوصية دون الوقف؟ أليست لهم رغبة في البحث عن الأجر الأعظم، والثواب الأدوم؟ ألم يدفعهم الحثّ النبوي على الوصية بكتابتها وإثباتها؟ أوَلَهُم رغبة في نفع ذريتهم، وصلة رحمهم، وامتداد أجرهم بعد موتهم في ميادين البر والإحسان المتنوعة؟ والجواب على كل تلك الأسئلة وغيرها: بلى، ولو تكلم أموات المُوْصِين لصاحوا بها! لا شك أن الوصية لها فضل عظيم لا يخفى، ولكن الوقف أفضل منها، وأجدر بتحقيق جميع ما في نفس الموصي وأكثر، فالوقف فيه اتباع لسنة النبي ﷺ وأصحابه -رضي الله عنهم-، فمن نظر في سيرهم وجد أن الوقف حاضراً في حياتهم، وظاهراً في مسيرة أعمارهم مقارنة بالوصية. كما أن الوقف في حياة المرء فيه مسارعة لرضا الله تعالى، ومسابقة...