التخطي إلى المحتوى الرئيسي

معالم وقفية: مُثلّث ناظر!


 مُثلّث ناظر!

رؤية هندسيّة لنظارة مستدامة (1)
 

تتنوع النظارة على الأوقاف بحسب عدة اعتبارات، كالثبوت الأصلي أو الفرعي، والصفة الطبيعية أو الاعتبارية، والفردية أو الجماعية، والإشرافيّة أو غير الإشرافيّة، والعامة أو الخاصة أو المطلقة أو النسبيّة، والمطلقة أو المقيّدة، ولكن جميعها تتوحّد في وظيفة النظارة ومسؤولياتها، والتي يُتفق على أنها في حفظ الوقف وحمايته، وتنفيذ شرط الواقف ومصارفه، وتثمير وترشيد غلّته وريعه، وأداء حقوق المستحقين.

هذه الوظائف -بعيداً عن اعتبارات النظارة أو حجم الوقف أو نوعه- رئيسة لوقف يراد منه ما أراد الشارع من الاستدامة والأثر الباقي، والتي يجب أن تدار -بعد توفيق الله تعالى وإخلاص العمل له- بعقليّة واعية، ونظرة للمستقبل ثاقبة، وفكر استراتيجي متّزن، وأفق مدركٍ لمستقبل وقفي مستدام.

هذا الوجوب الوظيفي للنظارة ألقى بظلاله عليّ لابتكار نموذج نظارة صالح لكل اعتبار أو حجم أو نوع وقفي، استعرته من قوة الأشكال الهندسية، واستقريته من ميدان أعمال النظار ومجالسها الناجحة، والذي جعلتُه في خمسة نماذج هندسية أولها: المثلّث؛ ليجعل من النظارة منهجاً متميزاً لفهم التوازن بين الاستدامة والاستقرار، والمرونة والنمو، والقيادة والإدارة، والاستراتيجية والتنفيذ، وما بعد اللفّ إلا النشر!

فما النظارة المثلّثة؟

هي المعتمِدة على القيادة والاستراتيجية والإشراف؛ من أجل تحقيق الأهداف بوقت كاف وفاعلية، وذلك عبر إحداث توازن مثاليٍّ بين التوجيه القوي المركّز على صنع القرارات وتوجيه الإدارة التنفيذية نحو تحقيق رؤية الوقف، والمرونة الاستراتيجية المبنيّة على تحليل عميق للموقف الوقفي، والإشراف الضامن للامتثال والرقابة على الأداء المحقق للشفافية والاستدامة.

وتقوم النظارة المثلّثة على مبادئ متعددة أهمها الوضوح في الأدوار والمسؤوليات، وذلك بتحديد دور كل عضو في المجلس بوضوح؛ لتجنب التداخل وتحقيق الكفاءة، والتوازن بين الاستراتيجية والتنفيذ؛ للتأكد من أن القرارات الاستراتيجية قابلة للتنفيذ تطبيقياً، والمرونة في التكيف مع التغييرات؛ لتسريع الحلول للتحديات والفرص الوقفية، مع الاهتمام بالشفافية والمساءلة، وتقديم تقارير منتظمة لأداء الإدارة التنفيذية؛ لضمان وضوح حوكمة العمليات.

ويمتاز المجلس المثلّث بقادة ذوي خبرات متنوعة تُحدث توازناً في قيادة الوقف، يحيون روح العمل الجماعي من أجل تنفيذ استراتيجي فاعل، كما أن قراراته حاسمة، واستراتيجياته مدروسة ومحدّثة باستمرار، وذلك بناء على تحليل دقيق للبيانات المتاحة والمتقدمة، وتوجيهات واضحة من مجلس النظارة مدعّمة بآليات مراقبة متكاملة، وتقييم مستمر منطقي متمثّل في استخدام مؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs)؛ لقياس مدى تحقيق الأهداف المخطط لها، وتغذية راجعة دورية؛ لتحسين فعالية المجلس، وتحليل للنتائج من خلال مقارنة الأداء الفعلي مع التوقعات؛ لجودة تحسين مستمر، مع اعتماد تقارير تحليلية دورية؛ لتعزيز عملية اتخاذ القرار.

وإذا كانت النظارة بالشكل المثلّث بهذه الميزات؛ فإن اختيار نظّارها واستقطابهم يتوقع أن تكون لديهم الخبرة القيادية والإدارية العالية، مع القدرة على اتخاذ قرارات استراتيجية مبنية على بيانات وتحليل، إضافة إلى تمكنّهم من النظر برؤية مستقبلية، واستشراف للفرص والتحديات، ومن أفضل التخصصات التي يمكن أن تجد فيها هؤلاء النظار -بعد التأكد من معرفتهم بما لا يسع الناظر جهله من أحكام الوقف الشرعية والقانونية - هي: التخطيط الاستراتيجي، وإدارة الأعمال، أو تطويرها وتحليلها.

وفي العمل بأسلوب النظارة في شكلها المثلّث تمكين للناظر من وضع رؤية واضحة لأهداف الوقف، وتنفيذ شروط الواقفين بفاعلية، ووضع استراتيجيات استدامة وتثمير رشيدة، وفق قيادة قوية مرنة قادرة على التعامل مع التحديات الوقفية.

وليس "مثلث" الناظر محصوراً على وقف دون آخر، فالوقف الكبير سيقوده لاستراتيجيات طويلة المدى، والمتوسط سيوسّع عليه نطاق مصارفه واستثماراته بطريقة مدروسة، والصغير سيبني له نموذج عمل واضح يساعده على النمو السريع، ودخول القطاع الوقفي بشكل تنافسي.

ولكي يكون المقال إثرائياً عملياً أسقيتك -أيها الكريم- منهلاً تطبيقياً، وهو نموذج تقييم أداء مجلس النظارة المثلث*؛ لتستفيد منه، فإن النصائح لا تخفى مناهلها على الرجال ذوي الألباب والفهم، والمنهلُ ختام المَعْلم.

د. أسامة بن علي الغانم

متخصص في تطوير الأعمال في القطاع غير الربحي والمستشار في الأوقاف والوصايا

0504496494

 dr.oalghanem1@gmail.com

*يمكنك مسح رمز الاستجابة "الباركود" للوصول للنموذج 




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

التحفيز على تطبيق الحوكمة في الأوقاف

   التحفيز على تطبيق الحوكمة في الأوقاف   تبذل الهيئة العامة للأوقاف -مشكورة- جهوداً في تنظيم كل ما من شأنه الارتقاء بقطاع الأوقاف، ومن آخر مشاريعها المتميّزة: مشروع وثيقة مبادئ حوكمة الأوقاف ، والذي يسعى لتعزيز أفضل ممارسات الحوكمة في المجال الوقفي، وتطوير قواعدها وسياساتها؛ بما يسهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية الوقفية، والاستدامة المؤسسية، والآثار الاجتماعية، ويقوّي التكامل بين الجهات الرقابية والتشغيلية؛ لتحقيق الامتثال الفعّال. ودَعَت الهيئة جميع المعنيين بالقطاع الوقفي مشاركتها الرأي في المشروع من خلال رابط المشاركة في منصة استطلاع التابعة للمركز الوطني للتنافسية عبر الرابط التالي: https://t.co/njVkSM4y88 . وقد أرسل إليّ الأخ العزيز مدير الإدارة العامة بوقف الشريف غالب الأستاذ الشريف: محمود بن هاني آل غالب -وفقه الله- بإحسان ظنّ منه في أخيه -جزاه الله خيراً- تعليقه ورأيه المبارك في المشروع -وهو منشور في التعليقات على المشروع في منصة استطلاع-، ورأيتُ ضمن اقتراحاته وضع نظام تصنيف ثلاثي لتحفيز الأوقاف على الالتزام بالحوكمة، ويكون إطاراً تدريجياً لتطبيق مبادئ الح...

من وثيقةِ عمر-رضي الله عنه- إلى وثائقِنا اليوم!

من وثيقةِ عمر-رضي الله عنه- إلى وثائقِنا اليوم يقف الفاروق عمر -رضي الله عنه- على أرض خضراء في خيبر تتلألأ بالنخيل، يتأمل ملكًا نفيسًا وهبه الله له، وقلبه يتوق أن يجعله صدقة جارية لا تنقطع، فيُولّي شطر قلبه إلى رسول الله ﷺ يستشيره، فيجيبه ﷺ بكلمات خالدة: "إن شئت حبّست أصلها، وتصدّقت بها". فكتب عمر -رضي الله عنه- أول وثيقة وقفية مكتوبة في الإسلام، وحدد فيها المقاصد والأغراض، وضبط الشروط والمصارف، ووضع صلاحيات التصرّف؛ ليضع هذا الصحابي الجليل المُلهم حجر الأساس لأعظم نظام استثماري اجتماعي مستدام تعرفه البشرية، وهو: "الوقف". وحين النظر في هذه الوثيقة الوقفية المباركة نجد أنها -في بادئ النظر- ورقة مكتوبة، لكنها -حين التأمل- نواة "حوكمة الأوقاف" الذي ظلّ حاضرًا حتى يومنا هذا. وعندما نقرأ هذه الوثيقة، تتجلى لنا مبادئ ثمانية لا غنى عنها لكل واقفٍ أو ناظرٍ أو مستشار وقفي، وهي: ·       وضوح المقصد: فبدون مقصد محدد تصبح المصارف فضفاضة، ويفتح باب الاجتهاد الخاطئ؛ فيتعثر الوقف، ويضيع الأثر. ·       مرجعية مُعتمدة: فالوثيقة أصل فقهي، ومرجع نظام...

معالم وقفية: وصيةٌ أم وقف!

  وصيةٌ أم وقف! أوقفتُ عملي، واستدرتُ نحو قلمي لأكتب هذه الأسطر؛ لأن الضرورة الفكرية ألجأتني لتدوين الكلمات، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. العملُ الذي أوقفته كان أيضاً سبباً في جذوة هذا المقال؛ إذ كنت أدرس وثيقة وصية وردتني فيها نزاع وشقاق، وهي الثالثة التي تصلني خلال هذا الأسبوع من الجلسات الاستشارية الوقفية.  والأسئلةُ المبدوء بها: لماذا يلجأ المحسنون إلى الوصية دون الوقف؟ أليست لهم رغبة في البحث عن الأجر الأعظم، والثواب الأدوم؟ ألم يدفعهم الحثّ النبوي على الوصية بكتابتها وإثباتها؟ أوَلَهُم رغبة في نفع ذريتهم، وصلة رحمهم، وامتداد أجرهم بعد موتهم في ميادين البر والإحسان المتنوعة؟ والجواب على كل تلك الأسئلة وغيرها: بلى، ولو تكلم أموات المُوْصِين لصاحوا بها! لا شك أن الوصية لها فضل عظيم لا يخفى، ولكن الوقف أفضل منها، وأجدر بتحقيق جميع ما في نفس الموصي وأكثر، فالوقف فيه اتباع لسنة النبي ﷺ وأصحابه -رضي الله عنهم-، فمن نظر في سيرهم وجد أن الوقف حاضراً في حياتهم، وظاهراً في مسيرة أعمارهم مقارنة بالوصية. كما أن الوقف في حياة المرء فيه مسارعة لرضا الله تعالى، ومسابقة...